الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتؤكد السورة الكريمة أن الله تعالى قد أنزل إلي الناس آيات مبينات.ومثلا من الذين خلوا من قبلهم وموعظة للمتقين، وتؤكد أن الله تعالى هو نور السموات والأرض، وأنه تعالى هو الذي يهدي لنوره من يشاء: وتضرب مثلا لذلك، ولله المثل الأعلي.وتدعو سورة النور إلي عتق رقاب الأرقاء؛ وإلي بناء المساجد، وإلي القيام علي عمارتها وتطهيرها.. بيوتا لله في الأرض، ومنارات للدعوة إلي دين الله الخاتم، يعبد فيها الله تعالى وحده بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع؛ ويسبح المؤمنون فيها بحمده صباح مساء، لا يشغلهم عن ذلك شيء من ملهيات الدنيا، ومتعتها، وزخارفها.. وذلك طمعا في مرضاة الله، وتجنبا لسخطه، وتحسبا لأهوال يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار. وتبشر السورة الكريمة أهل المساجد بأن الله تعالى سوف يجزيهم {أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} (النور: 38).وفي المقابل تؤكد سورة النور أن الكفار في الآخرة سوف يجدون أعمالهم التي اقترفوها في الدنيا وهم متصورون أنها أعمال نافعة وكأنها سراب خادع لا قيمة له، ولا نفع منه؛ وسوف يجدون الله تعالى حاضرا يوفيهم حسابهم وهو تعالى سريع الحساب، وأما أعمالهم السيئة فسوف يجدونها كظلمات متكاثفة يشبهها الله سبحانه وتعالي بالظلمات المتراكبة فوق قيعان البحار العميقة، والتي يشارك في إحداثها كل من السحاب، والأمواج السطحية، والأمواج الداخلية والتي لم تكتشف إلا في مطلع القرن العشرين، وتعتبر الإشارة إليها في سورة النور سبقا علميا للقرآن الكريم في زمن لم يكن لأحد من البشر إدراك لوجودها، بل ظلت خافية علي علم الإنسان لمدي ثلاثة عشر قرنا بعد تنزل الوحي بها، والواقف في مثل هذه الظلمات المتكاتفة لا يكاد يري شيئا من حوله ولذلك تقرر الآيات حقيقة كونية واقعة تصفها بقول الحق تبارك وتعالي: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} وتأتي الكشوف العلمية في السنوات القليلة الماضية مؤكدة أن كل صور الحياة فوق قيعان البحار العميقة، وكذلك بعض الكائنات الليلية علي سطح الأرض قد زودها الخالق سبحانه وتعالي بوسائل إضاءة ذاتية، حتي ينطبق النص القرآني في آخر هذه الآية الكونية علي الواقع المادي المحسوس، كما ينطبق علي المعني الضمني المقصود.وتؤكد سورة النور أن جميع من في السموات والأرض يسبح لله الذي له ملك كل شئ، وإليه المصير؛ وتستشهد علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة بتكوين السحاب الركامي علي هيئة الجبال وبإنزال كل من المطر والبرد منه، وبنسبة تكون ظاهرة البرق إلي البرد لأن في الإشارة إلي هذه الحقائق التي لم يصل إليها علم الإنسان إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين؛ تأكيد علي أن القرآن كلام الله الخالق، وعلي نبوة الرسول الخاتم الذي تلقاه، وتستشهد الآيات علي ذلك أيضا بتقليب الليل والنهار، وبخلق كل دابة من ماء، وبتصنيف تلك الدواب علي أساس من طرائق مشيها، وتؤكد أن الله تعالى علي كل شيء قدير وأنه قد أنزل آيات مبينات، وأنه تعالى يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم.وتحذر السورة الكريمة من النفاق والمنافقين، وتفصح عن شيء من دخائل نفوسهم، وما جبلوا عليه من الكذب، والمكر، والخداع، والاحتيال، والحنث في الأيمان، ونقض العهود والمواثيق تماما كما يفعل الصهاينة المجرمون اليوم. وتقارن بين المواقف الكفرية الكاذبة الخائنة المشينة لهؤلاء المنافقين، والمواقف الإيمانية الصادقة الأمينة الكريمة للمؤمنين، وتأمر بطاعة الله ورسوله، فإن أعرض المنافقون فما علي الرسول إلا البلاغ المبين.وتؤكد سورة النور أن وعد الله قائم للذين آمنوا وعملوا الصالحات بقوله: تبارك وتعالي: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور: 55).وتعاود الآيات الكريمة الأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلي الله عليه وسلم خاصة في الأمر بالجهاد في سبيل الله، مؤكدة أن الذين كفروا من أمثال الإسرائيليين المجرمين والأمريكان المتجبرين المعتدين ليسوا بمعجزين في الأرض، وأن مأواهم جميعا النار وبئس المصير، كما تعاود الأمر بالمزيد من ضوابط السلوك في البيت المسلم، وفي حضرة رسول الله صلي الله عليه وسلم خاصة كنموذج للتعامل مع القيادة الإسلامية في كل زمان ومكان وتجعل هذا الأدب في التعامل من صفات المؤمنين، وتحذر من مخالفة تلك الأوامر درءا لفتن الدنيا وعذاب الآخرة.وتختتم سورة النور بالتأكيد مرة أخري أن لله ما في السماوات والأرض، وأنه تعالى عليم بخلقه، وأنهم جميعا سوف يرجعون إليه فينبئهم بما فعلوا في الحياة الدنيا، ويجازيهم بأعمالهم فيها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها سورة النور علي صدق ما جاء بها من أحكام وتشريعات ما يلي:(1) أن الله تعالي هو نور السماوات والأرض، وأنه تعالي هو الذي يهدي لنوره من يشاء، وأن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور. وضربت الآيات مثلا للنور الإلهي ولله المثل الأعلي.(2) تشبيه أعمال الكافرين التي اقترفوها في الدنيا وهم واهمون أنها أعمال نافعة بالسراب الخادع.(3) تشبيه أعمال الكافرين السيئة في الحياة الدنيا بالظلمات المتراكبة فوق قيعان المحيطات والبحار العميقة، والتي يشارك في إحداثها كل من السحاب، والأمواج السطحية، والأمواج الداخلية التي لم تكتشف إلا في مطلع القرن العشرين.(4) التأكيد علي أن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور، وذلك علي مستوي كل من الحقيقة الواقعة المحسوسة، والمعني الضمني المقصود.(5) التأكيد علي أن كل ما في السموات والأرض يسبح بحمد الله تعالى، ويقدسه، ويمجده في عبادة إرادية أو عبادة تسخيرية لا يدركها كثير من الخلق الغافلين.(6) الإشارة إلي تكون السحب الركامية علي هيئة السلاسل الجبلية وذلك بإزجاء السحاب، ثم التأليف بينه، ثم ركمه، وإنزال كل من المطر والبرد منه، وتكون ظاهرتي البرق والرعد فيه.(7) التأكيد علي قدرة الله البالغة في تقليب الليل والنهار.(8) خلق كل دابة من ماء.(9) الإشارة الضمنية الرقيقة إلي إمكانية تصنيف الدواب علي أساس من طريقة مشيتها.وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة، قد لا يتسع المجال لها ولذلك فإنني سوف أقصر حديثي هنا علي الآية الأربعين من سورة النور والتي تتحدث عن الظلمات المتراكبة فوق قيعان البحار العميقة، وأسباب تكونها، وقبل الخوض في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة.
|